![]() |
خاطرة كل شيء كان قاتلاً |
كل شيء كان قاتلاً لكنني لم أمت، هكذا علمتني الحياة أن أواجه الألم كأشد الأبطال، فقد كانت الأيام تصرعني واحدة تلو الأخرى، لكنني كنت أرى فيها دروساً، لا نهايات.
كل شيء كان قاتلاً لكنني لم أمت
إن الحياة تُمسي في لحظاتٍ كثيرة، ميداناً مرهقاً من الصراع بين الموت والحياة، وما أندر لحظة يتوقف فيها قلب الإنسان عن التفكير في حافة الهاوية التي يقف عليها، بين الموت الذي يتربص به والحياة التي تتفلت من بين يديه كما يتفلت الماء من أصابع اليد.
في هذه المعركة الخفية بين الحياة والموت، قد يظن البعض أن الموت هو النهاية الحتمية، لكن الحقيقة الأشد قسوة أن الإنسان قد لا يموت، رغم أن كل شيء حوله كان قاتلاً، حتى وإن سحقت أنفاسه، واهتز جسده، وانحنت روحه تحت وطأة اليأس.
الحياة ليست سوى لعبة حظٍّ وضيق
حينما يعصف بنا الألم، تتبدى الحياة لنا كما لو أنها سيفٌ مسلول، لا يكف عن الجرح، لا يشبع من نزيفنا، فكل يومٍ يمضي يبدو كأنه خطوة إضافية نحو النهاية، قد تكون تلك النهايات التي نتخيلها، في أحلك ساعاتنا، على هيئة موتٍ وشيك، أو انهيارٍ كامل لا يترك لنا مجالاً للتنفس.
لكن، وفي غمرة اليأس، لا يكف القلب عن النبض، ولا يتوقف العقل عن التفكير في المستقبل، إنها مفارقة الحياة التي تحير العقول، تلك التي تدفعنا إلى التساؤل: كيف استطعنا البقاء رغم القسوة التي كانت تحيط بنا من كل جانب؟
في تلك اللحظات التي يظن فيها المرء أنه قد هلك، تظل هناك نقطة ضوء باهتة، خافتة لكنها حقيقية، تلك النقطة التي تمثل رغبةً عميقة في العيش، تدفع المرء إلى المضي قدماً رغم كل شيء، فالحياة ليست سوى لعبة حظٍّ وضيق، وقد تكون الحياة بعد كل ضيق، إشراقةَ الأمل التي يرفض الموت أن يخطفها من بين يديه، فحتى وإن تكالبت الأوجاع من كل حدبٍ وصوب، تظل القدرة على الصمود، والقدرة على الاختيار، أسمى ما في هذا الوجود.
ربما من الصعب على أحد أن يتصور الحياة دون أن يكون فيها ثمنٌ باهظ من الألم، لكن الألم في ذاته قد يكون أحد أكثر الأشياء إيلاماً لنا حين يطول ويستمر، في رحلتي مع هذا الألم، والذي تشبث بي كما تتشبث الأم بطفلها، مررت بتجارب عدة، كانت كلها قاسية، كلها مريرة، وتظن، في خضمها، أن الموت هو الحل، لكن الحقيقة المرّة التي لا بد من مواجهتها هي أن الموت ليس سوى مجرد فكرة، بينما الحياة هي الفعل، العمل، التحدي.
كل شيء كان قاتلاً، لكنني لم أمت فحين تتوالى الأحداث التي تكاد أن تسحق الروح، وحين تلتهم الأوجاع الجسد كما يلتهم الطوفان كل شيء في طريقه، يجد الإنسان نفسه أمام خيارين: إما الاستسلام والانهيار، أو النهوض مجدداً، وما أقدر الإنسان على النهوض حينما تتوافر له الإرادة، فإن تلك الإرادة هي التي تجعله يقاوم كل العوامل التي تهدد وجوده، سواء كانت تلك العوامل من الخارج أو حتى من داخله.
فلسفة البقاء
لكن ما هي فلسفة البقاء؟ هل هي مجرد رغبة في الاستمرار، أم أنها تتعدى ذلك إلى حاجة أعمق، تلك الحاجة التي تدفعنا نحو البحث عن معنى لوجودنا؟ في عالمٍ مليء بالألم، وبالموت المتربص، هل يبقى هناك مجالٌ للبحث عن المعنى، أم أن هذا السؤال يصبح ترفاً عقلياً لا مكان له في عالم مليء بالكوارث؟
هذا السؤال قد يبدو سخيفاً في ظاهره، لكنه يحمل في طياته حقيقةً بليغة: البقاء ليس مجرد فعل استمراري، بل هو فعلٌ من أجل إحياء المعنى، من أجل أن يكون للحياة هدفٌ لا يزول.
إن الحياة، رغم قسوتها، قد تكون أروع ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان، ليس لأنها خالية من الألم، بل لأن الإنسان قادر على صناعة معنى لها حتى في أوج عطشه، وما أروع أن تظل الحياة نابضة، رغم كل الظروف التي تحيط بها، ورغم أن كل شيء كان قاتلاً، لكننا لم نمت.
إذا كانت الحياة قد حملت لنا الأوجاع، فإنها كذلك قد منحتنا القوة على تحملها، ليس الموت هو النهاية بل هو بداية فصل جديد، فما نحن إلا مسافرون في عالم لا يرحم، لكننا في ذات الوقت، أسياد قرارنا، لقد تعلمت أن الحياة ليست مجرد ممر للعيش، بل هي محاكمة لنا، محاكمة لأرواحنا، وهي كفاح مستمر للحفاظ على جوهر الإنسان، لا تظنوا أن الموت هو قدرٌ محتوم، فقد تكتشفون، كما اكتشفت، أن الموت ليس سوى لحظة من لحظات الحياة، فكل شيء كان قاتلاً، لكنني لم أمت...!
تمت الكتابة بواسطة: حسيب أورفه لي.
هل كان المحتوى مفيداً؟ أم تريد الإبلاغ عن خطأ، رأيك يهمنا وتعليقك يفيد الموقع