الوحدة ليست فراغ بل مساحة لملء الروح

الوحدة ليست فراغ
خاطرة الوحدة ليست فراغ

واللهِ ما خلوتُ يوماً إلا وجدتُ في السكونِ كلاماً، وفي الانفرادِ أُنساً، فالوحدةُ ليستْ فراغاً يُوحي بالهلاكِ، بلْ مرقىً ترتقي بهِ النفسُ إلى معرفةِ ذاتِها.

الوحدة ليست فراغ بل صمتٌ ناطق يُحدّثك بما لا يقوله أحد

الحمدُ للهِ الذي جعلَ في الخلوةِ مرآةً للنفسِ، وفي الصمتِ لساناً للقلبِ، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ الذي كانَ يعتكفُ في غارِ حراءَ، يلتمسُ في الوحدةِ نورَ الهدايةِ، وبعدُ فإني أقدمُ إليكمْ مقامةً أدبيةً، أرويها على لسانِ راوٍ تأملَ في الوحدةِ، فأبصرَ فيها ما لمْ يبصرْهُ في زحامِ الناسِ، واستلهمَ منها حكمةً أضاءتْ دروبَهُ.

في صمتِ الوحدةِ تهمسُ الأنفسُ

كنتُ يوماً جالساً في ركنِ داري، وقدْ أرخى الليلُ سدولَهُ، وغابَ عني الأنيسُ، فلمْ أجدْ سوى نفسي رفيقةً، ولمْ أسمعْ سوى أنفاسي صدىً يترددُ في صدري، وكمْ كنتُ أظنُّ الوحدةَ نقمةً تُثقلُ الكاهلَ، وتُظلمُ القلبَ، حتى أنعمتُ النظرَ فيها، فإذا هي نعمةٌ متنكرةٌ في ثيابِ البلاءِ! إنَّ الوحدةَ، يا سادةُ، ليستْ فراغاً يُرعبُ، بلْ حيزٌ يتسعُ للتأملِ، وميدانٌ تتسابقُ فيهِ الأفكارُ، فتُزهِرُ الحكمةُ من ترابِ السكونِ.

ألمْ ترَ أنَّ الشجرةَ إذا انفردتْ في أرضٍ قفرٍ، امتدتْ جذورُها عميقاً، واستوى ظلُّها عالياً؟ كذلكَ الإنسانُ، إذا خلا بنفسِهِ، أصغى إلى همساتِها، فأدركَ ما غابَ عنهُ في ضجيجِ الجموعِ.

في تلكَ الخلوةِ، وقفتُ أسائلُ نفسي: أيُّها الإنسانُ، لِمَ تخشى السكونَ وهوَ مرقدُ الروحِ؟ ألمْ يكنْ في صمتِ الليلِ ما يُوقظُ العقلَ، وفي انقطاعِ الأصواتِ ما يُحيي القلبَ؟ فواللهِ، ما رأيتُ أصدقَ من الوحدةِ مرآةً، تعكسُ لكَ ذاتَكَ بلا رتوشٍ ولا أقنعةٍ، إنَّ ضوضاءَ العالمِ تُغرقُ صوتَ النفسِ، كما تُغرقُ الأمواجُ زورقاً صغيراً، فإذا ما هدأتَ، وخلوتَ، سمعتَ ذلكَ الصوتَ الخفيَّ، يُناجيكَ، يُرشدُكَ، يُعاتبُكَ أحياناً، لكنَّهُ لا يخدعُكَ أبداً.

من نقمةٍ إلى نعمةٍ

ثمَّ إني تأملتُ في حالِ الناسِ، فوجدتُ أكثرَهمْ يفرُّونَ من الوحدةِ كما يفرُّ الظبيُ من صيادٍ، ويهرعونَ إلى الجموعِ طلباً للسلوى، فلا يجدونَ إلا وهماً يزولُ، وصخباً يُثقلُ، وقليلٌ منهمْ من يعرفُ أنَّ في الوحدةِ كنزاً، إذا فتحتَ بابهُ، أغناكَ عن زينةِ الدنيا وبهرجتِها.

ألا ترى أنَّ العارفينَ كانوا ينقطعونَ إلى الجبالِ والكهوفِ، لا ليهربوا من الحياةِ، بلْ ليجدوا فيها معنىً أعمقَ؟ إنَّ الوحدةَ مدرسةٌ صامتةٌ، تُعلمُكَ الصبرَ، وتُريكَ عيوبَكَ، وتُهديكَ إلى سبيلِ النموِّ، فمنْ رأى فيها فراغاً، فقدْ أعماهُ الجهلُ عن حقيقتِها، ومنْ رأى فيها مساحةً للروحِ، فقدْ أبصرَ بنورِ العقلِ.

ولقدْ مررتُ بأيامٍ كنتُ فيها أظنُّ الوحدةَ سجناً، فكنتُ أطرقُ أبوابَ الناسِ، ألتمسُ منهمْ عزاءً، فما وجدتُ إلا أحاديثَ تُلهي ولا تُغني، وأُنساً يذوبُ كالسرابِ، حتى إذا عدتُ إلى نفسي، وأغلقتُ بابي، وأصغيتُ إلى ما في صدري، وجدتُ أنَّ السكينةَ كانتْ تنتظرُني هناكَ، في ركنِ الخلوةِ، حيثُ لا أحدَ سوايَ، وحيثُ أكونُ أنا بكلِّ ما أنا عليهِ، فقلتُ في نفسي: يا عجباً! كيفَ كنتُ أهربُ من نعيمٍ، وأطلبُ الراحةَ في تعبٍ؟

فيا أيها السائرُ في دروبِ الحياةِ، لا تجزعْ من الوحدةِ، ولا تظنَّها عدواً يتربصُ بكَ، فإنَّها صديقةٌ وفيةٌ، تُعطيكَ ما لا يُعطيكَ الخلقُ جميعاً، إنَّ في صمتِها لغةً لا يفهمُها إلا منْ صبرَ عليها، وفي سكونِها حياةً لا يدركُها إلا منْ عاشَها، فخُذْ من وحدتِكَ موعظةً، واجعلْها مرقىً ترتقي بهِ إلى معرفةِ ذاتِكَ، وملءِ روحِكَ بما يُنيرُها، واعلمْ أنَّ الوحدةَ ليستْ نهايةً، بلْ بدايةٌ لمنْ أرادَ أنْ يرى العالمَ بعينِ القلبِ، لا بعينِ الزحامِ.

وإني أختمُ مقامتي هذهِ بحكمةٍ سمعتُها من عاقلٍ مرَّ بي يوماً، فقالَ: "منْ خلا بنفسِهِ ولمْ يجدْ فيها خيراً، فليبكِ على نفسِهِ، لا على وحدتِهِ"، فتأملوا، يا سادةُ، ولا تُعرضوا عن الخلوةِ، فإنَّها مرآةُ الروحِ، ومفتاحُ الحكمةِ، واللهُ الموفقُ لما فيهِ الخيرُ دائماً.

تمت الكتابة بواسطة: حسيب أورفه لي.

موقع محترفين العرب
موقع محترفين العرب
موقع محترفين العرب البوابة الشاملة للمحتوى العربي بكل جوانبه ومجالاته.
تعليقات