خاطرة إنسان باهت يتكئ على عادة العيش لا على رغبة البقاء

إنسان باهت
خاطرة إنسان باهت

في زحمة الأيام وضجيجها، هناك من يسير بيننا وكأنّه لا يسير، إنسان باهت من الداخل، لا يترك أثراً في حديثه ولا في ملامحه، تائه بين صمت نفسه وضجيج العالم.

إنسان باهت من الداخل

هناك صورة لا تُنسى، تراها أحياناً ولا تملك لها اسماً، لكنها تسكن في الذاكرة مثل ظلٍّ شاحبٍ لا لون له، صورة إنسانٍ يمشي في دروب الحياة كمن لا يعرف إلى أين يتّجه، متّكئ على التعب، محاط بالضجيج، لكنه ساكت، كأن الكلام ليس له، كأنّ الروح انسحبت منه ذات خيبة، ولم تترك سوى هيكلٍ يكرر العيش بلا معنى.

هامدٌ من الداخل، لا يغضب، لا يفرح، لا يحزن حتى، هو ليس عدواً للحياة، لكنه أيضاً ليس صديقاً لها، إنّه الإنسان الباهت، ذاك الذي تظنّه موجوداً لكنه غائب، يسمعك دون أن يصغي، يراك دون أن يراك، وتكاد تنساه وهو أمامك، كأن الحضور لا يعني شيئاً إن لم يكن نابعاً من روحٍ يقظة، حيّة، ممتلئة بالشغف أو الوجع أو أي شعورٍ يجعل القلب ينبض.

الإنسان الباهت ليس فاقداً للحياة لكنه فاقد للضوء، تراه يتحرّك، يعمل، يبتسم أحياناً، يضحك مع الآخرين، لكن عينيه تكذّبان ضحكته، لأن البهتان لا يسكن الوجوه بل يسكن النظرات، كأنّه يسير في غابة لا يعرف خارطتها، تائهٌ في ذاته لا يعرف من يكون ولا إلى أين ينتمي.

فقد انطفأت في داخله الشرارة التي كانت توقظه من كل كبوة، أو تدفعه للبحث عن معنى لما يفعله، إنّه صامت لا لأنه حكيم، بل لأنه تعب من الكلام، ومتجمّد لا لأنه بارد الطباع، بل لأن قلبه أُطفئ فيه دفء الحياة، روحه لا تجد ما يستحق الغضب ولا الحلم ولا حتى التساؤل، إنه رحّالة في عتمة الذات، يسير بأقدامٍ ثابتة لكن بروحٍ غائبة.

جذور البهتان وآثاره الخفيّة

لا يولد البهتان فجأة، بل يتسلل ببطء مثل الغبار، يعلو فوق كل شيء حتى يحجب الرؤية، يبدأ من اضطرابٍ داخلي خفي، لا يراه من حولك، لكنه يأكلك بهدوء، اضطرابٌ في الهوية، كأنك لا تعرف من أنت، ولا لأي فكرة تنتمي، ثم تنفصل عن نبضك، ويغدو القلب مثل آلة تؤدي واجباتها دون أن تحسّ بما تفعل.

تصبح الأيام متشابهة، والمواقف متكرّرة، ويتحوّل الوجود إلى عادة رتيبة، بلا شعور ولا هشة، وتغيب الصلة بينك وبين ذاتك، وكأنك لا تعني نفسك، تتعوّد على الفراغ، وتستكين للوهن، وتمر السنوات وأنت لا تدري ما الذي خسرته بالضبط، لأنك لم تعد تقيس الأمور بما فيها من حياة، بل بما فيها من قدرة على التحمل.

إنّ أخطر ما في البهتان أنّه لا يُرى، لكنه يُحسّ، لا يُحكى، لكنه يُستشعر، تراه حين تنطفئ البهجة من الوجدان، حين تُحاصر العاطفة ويُقبض الإحساس، حين يصبح الفرح شيئاً بعيداً لا يأتي، لا لأن الحياة قاسية، بل لأن الداخل جفّ حتى لم يعد قادراً على استقبال النور.

وتراه حين يخمد الفكر، وتضيع الأسئلة، ويغدو العقل أسيراً للرتابة، لا يجد في العالم ما يستحق البحث أو الدهشة، تتيه فيك الكلمات، وتذبل الأفكار، وتصير الأحاديث خالية من حرارة التفاعل، وتفقد اللحظات خصوصيتها، حتى الزمن نفسه يصبح ثقيلاً، كأنك تحمله لا تمشي فيه.

هذا البهتان يترك أثره في كل شيء، يسرق منك ثقتك بنفسك، ويجعل الأمل يتفتّت كما تتفتّت الأحلام التي لم تنبت، تصبح مشوّشاً، ترى نفسك بلا قيمة، وتتعامل مع ذاتك كأنها غريب لا يعنيك أمره، ثم تبدأ العلاقات بالذبول، لأن العلاقة لا تُبنى على الوجود الجسدي، بل على حضور القلب.

وتفقد قدرتك على منح الآخرين دفئك، وتتحوّل الصلات إلى روتين، والأحاديث إلى واجبات، وكل ذلك يمتد للمجتمع أيضاً، لأن الإنسان الباهت لا يشارك، لا يُبادر، لا يحلم، فيغيب الحراك الثقافي والاجتماعي، وتخفت الحركة، وينتشر الصمت في مواضع كان ينبغي أن تُملأ بالأسئلة والمواقف والمبادرات.

البحث عن شرارة العودة

لكن البهتان ليس قدراً، والخروج منه ممكن، يحتاج فقط إلى لحظة صدقٍ مع النفس، لحظة مواجهة، تنظر فيها إلى داخلك دون مجاملة، تسأل فيها: هل هذه الحياة التي تستحق أن أعيشها؟ هل هذا هو الصوت الذي كنت أريده لصدى روحي؟

ابدأ بمحاولة اللقاء مع ذاتك من جديد، لا بشكلٍ نظري، بل كفعلٍ يومي صغير، اكتب، امشِ وحدك، أَصغِ لما تبقّى من نبضٍ في داخلك، أشعل شرارة الحلم ولو كان حلماً صغيراً لا يراه أحد، فالنار الكبرى تبدأ بشرارة، وعُد لزرع الشغف ولو في أرضٍ قاحلة، فالقلب حين يُسقى يزهر، حتى لو تأخر المطر كثيراً.

وتذكّر دائماً أنّك لست بحاجة لأن تنجو أمام الآخرين، بل لأن تنجو من نفسك حين تهجرك، وأنّ في كلّ إنسانٍ قدرة على النهوض حين يتذكّر أنه يستحق أن يكون حيّاً فعلاً، لا مجرد جسدٍ يمضي وسط الأيام.

تمت الكتابة بواسطة: حسيب أورفه لي.

موقع محترفين العرب
موقع محترفين العرب
موقع محترفين العرب البوابة الشاملة للمحتوى العربي بكل جوانبه ومجالاته.
تعليقات