![]() |
فاقد الشيء لا يعطيه |
كم رُدّدت علينا جملة: فاقد الشيء لا يعطيه، وكأنها قدر لا فكاك منه، لكن للحقيقة وجه آخر لا يراه إلا من عرف ألم الفقد وعظمة العطاء.
كاذب من قال فاقد الشيء لا يعطيه
كم تردّدت على مسامعنا عبارة: "فاقد الشيء لا يُعطيه"، حتى ظنها الناس حقيقة مقدسة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، بيد أن التأمل العميق، والغوص في بحر المشاعر الإنسانية، يكشف لنا زيف هذه المقولة، ويفضح سطحيتها، فاقد الشيء، أيها السادة، هو أكثر الناس قدرةً على العطاء، وأغزرهم بذلاً، وأصدقهم إحساساً، لأنه ذاق مرارة الفقد، وعرف ألم الحرمان.
إنّ مَن روّج لفكرة أن فاقد الشيء لا يُعطيه، أراد أن يبرر لنفسه ولغيره تقصيرهم، وجمود مشاعرهم، وخواء نفوسهم، كذبوا، وربّ الكعبة، حين قالوا ذلك، فاقد الشيء لا يقف عاجزاً، بل يتحوّل إلى نبعٍ لا ينضب، يفيض بما كان يتمناه، وينثر على من حوله ما حُرِم منه صغره وشبابه.
فاقد الحب، يحب بجنون، فاقد الحنان، يمنحه بسخاء، فاقد السند، يسند الآخرين كأنه جبل لا يتزحزح، فاقد الشيء، أكثر الناس وفاءً للعطاء.
تخيّل طفلاً لم يعرف طَيفَ الأم في طفولته، أيكون قلبه قاسياً؟ أم يصبح أكثر الناس شغفاً بأن يكون حضناً دافئاً لأطفاله؟
تأمّل يتيماً شبّ على برد الوحدة، أيكون شحيح الروح؟ أم يضحّي بوقته وقلبه ليغمر مَن أحبّه؟
إنَّ من ذاق العطش، يعرف قدر الماء، ومن ذاق الجوع، يدرك نعمة الخبز، وكذلك من ذاق الفقد، يُدرِك معنى العطاء، فيسكب ما لديه كأنّه يستدرك عن العالم تقصيره في حق نفسه.
العطاء الفائض عن الحاجة
فاقد الشيء لا يعطي فقط، بل يعطي ببذخ، كأنّ يديه خُلقتا للعطاء وحده، كأنّ جراحه غدت جداول محبة، فاقد الشيء لا يزن عطاياه بميزان العقل، بل يصبّها من قلبٍ متهالكٍ على العشق، يهب أكثر مما يحتمل، يمنح حتى يؤلمه الكرم.
- الأم التي حرمت من حنان والديها، كيف تحضن أطفالها؟ بذراعي شجرة، وبصدر سماء.
- الرجل الذي كبر وحيداً، كيف يكون رفيقاً لأصدقائه؟ كمن لا يريد لأحد أن يذوق وحدته.
- الفتاة التي خذلها العالم، كيف تحنو على قلب زوجها؟ كأنّها تمسح عن جبينه تعب الأرض كلها.
النقص لا يعني العجز، أيظن عاقلٌ أن النقص يولّد العجز؟ بل النقص يولّد التوق، والتوق يولّد الشغف، والشغف يولّد طاقة لا تخبو، وهكذا يكون فاقد الشيء مُلهَماً في عطائه، متوهجاً برغبته في أن لا يشعر غيره بما شعر به هو.
فاقد الشيء لا يكون مُفلساً بل يكون مليئا ً، لكن امتلاءه حزين، خافت، ومن هذا الامتلاء، ينبت العطاء، لذلك حين تسمع أحدهم يردد: "فاقد الشيء لا يعطيه"، ابتسم، وقل له: "بل يعطيه بأضعاف، لأن الفقد علّمه كيف يكون كريم الروح".
فاقد الشيء أيها السادة لا يترك العالم خاوياً بل يعيد خلقه من رحم الألم.
تمت الكتابة بواسطة: حسيب أورفه لي.
هل كان المحتوى مفيداً؟ رأيك يهمنا وتعليقك يفيد الموقع