![]() |
خاطرة عشت وحيداً |
عشت وحيداً، لأنني صدّقت أن المحبة الصادقة تكفي، ولم أكن أعلم أن الصدق في هذا الزمن يُتعب أكثر مما يُقرّب.
عشتُ وحيداً بقدر ما قيل لي بأنني صديقٌ عظيم
في كل لقاء، وفي كل محفل، كنت أُعرّف بأنني "الصديق الذي لا يُعوّض"، وكنت أُكرَّم بين جدران الكلام كما يُكرَّم الملوك في بلاطاتهم، لكنني حين احتجتُ لصديق، لم أجد سوى ظلّي يُربّت على كتفي، وأحاديثي القديمة تردّدها جدران الغرفة.
لم أُقصّر، ولم أتخلّف عن مناداة، ولم أغلق بابي في وجهِ مستغيث، كنتُ حاضراً حين تأخّر الجميع، ومُبادراً حين تردّد الآخرون، ومع هذا خُذلتُ بصمت، وتُركت بلا ضجيج، لم تُكسر أبوابي، بل أُغلقت أبوابهم، ولم يُطعن ظهري، بل تجاهلني من كان يُفترض به أن يكون عيني في الظلام.
الوحدة حين تأتي من فراغ الأصدقاء، ليست وحدةً عابرة، بل جرحٌ ناعم، لا يُرى، لكنّه عميق، تُراكم داخلك طبقاتٍ من الحذر، وتُعيد تشكيل قلبك على هيئة حارسٍ لا يفتح الأبواب إلا بميزانٍ من عقلٍ ومرارة.
وحبيبٌ لا يتكرّر
كثيرة هي الوعود التي قِيلت لي بأنني لا أُنسى، وبأن مكاني في القلب لا يُنازع، سُميتُ مراراً بـ "الحبيب الفريد"، واعتُبرتُ استثناءً لا يُعاد، لكن، غاب الذين قالوا، وبقيتُ أُحدّث نفسي عن معنى أن تُحبّك الكلمات ولا يبقى لك أحد.
كنتُ أُعطي الحب دون قيد، وأحمله كما يُحمل الخبز إلى الجائعين، لم أكن أُطالب بثمن، بل كنتُ أكتفي بابتسامة، أو دفء صدق، لكن الحبّ، حين يُبذل في زمنٍ كثرت فيه الأقنعة، يصبح عبئًا على من لا يعرفون قيمة النقاء.
أولئك الذين قالوا إنني لا أُكرَّر، كرّروا خيبتهم معي، ومضَوا دون اعتذار أو أسباب، وعلّمتني التجربة أن القلب إن لم يُحصّن بالتروّي، استُنزف سريعاًً، فصرتُ أحبّ بصمت، وأمنح دون أن أُظهر، وأغيب أحياناً لأحمي ما تبقّى منّي.
وأخٌ لا يُعوّض
كم مرة قيل لي: "وجودك في حياتي كالأخ الذي لم تلده أمي"، وكم مرة صدّقت ذلك؟ أكثر مما يجب، كنتُ ذاك الذي يركض إذا تعثّروا، ويُقاسمهم الألم كأنه صاحب الجرح، ومع هذا، حين جاء دوري، لم أجدهم حتى بين الغائبين.
الأخوّة لا تُقاس بعدد المرّات التي نضحك فيها، بل بعدد المرات التي لا نخذل فيها، وأنا خُذلت، حتى من أولئك الذين قالوا إنني الأخ الذي لا يُعوّض.
ومع الوقت، لم أعُد أغضب، بل صرت أفهم، ليس كل من تحدّث عنك يعرفك، وليس كل من أحبّ قربك، يحبّك حقاً، فينا من يطلب الأخوّة لأنه يفتقر إلى الدعم، لا لأنه يُؤمن بالوفاء.
وابنٌ لا مثيل له
كم أمسك بي الكبار، وهم يقولون لأبنائهم: "تعلّم منه، انظر كيف يفعل!" وكم حياني الآباء بعباراتٍ تفوق سني، وقالوا: "ليتنا نرزق بمثله!"، لكن الحقيقة، أنني حين احتجتُ لأن أكون ابناً، لم أجد حضناً مفتوحاً، بل وجدتُ أنني، كما أنا دائماً، المسؤول، الحاضر، البالغ حتى في طفولته.
الذين امتدحوا رجاحتي، نسوا أنني كنت أُخبّئ وجعي في جيب سترتي، وأبتسم كي لا يُقال إنني متعب، لم أُعطَ فرصة أن أكون صغيراً، بل حُملتُ مسؤولية أن أكون مثاليّاً، دون أن يسألني أحد: "هل يكفيك ما نُعطيك؟ هل تسعك هذه الحياة؟".
الابن لا يكون عظيماً لأنه يتحمّل، بل لأنه يُحبّ، ويُحَبّ، وأنا كنت أُحبّ كثيراً، وأُحبّ قليلاً، وها أنا اليوم، أعرف جيداً معنى أن تكون بلا مثيل، لكن أيضاً، بلا مَن يرى هذا التفرّد ويحتضنه.
ما عاد يؤلمني أنني وحيد فقد أدركتُ أن بعض الوحدات ليست عزلة، بل تنقية، وأن ما قِيل عني، وإن لم يُصدّق بالفعل، لا يُلغي حقيقة أنني كنتُ صادقاً في كل دورٍ أُسند إليّ، قد لا أكون محاطاً بالناس، لكنني محاطٌ بيقينٍ لا يتزعزع أنني لم أُقصّر، ولم أتخلّ، ولم أخن، وإن كان هذا العالم لا يُكافئ النبل في حينه، فهو على الأقل، يُنبت في القلب شجرة راحة، تُثمر حين تنقطع الأشجار من حولك.
فلا تأسى على من مضى، ولا تلهث خلف من لم يُدرِك قدرك، عش كما يليق بمن عرف نفسه، واستراح إلى صمته، وكان صادقاً، وإن أنكره الجميع.
وهكذا عشتُ وحيداً بقدر ما قيل لي بأنني صديقٌ عظيم، وحبيبٌ لا يتكرر، وأخٌ لا يُعوض، وابنٌ لا مثيل له، ولكن بثقة لا يشوبها ندم.
تمت الكتابة بواسطة: حسيب أورفه لي.
هل كان المحتوى مفيداً؟ أم تريد الإبلاغ عن خطأ، رأيك يهمنا وتعليقك يفيد الموقع