![]() |
خاطرة الرزق الحقيقي |
إنّ الرزقَ الحقيقيُّ هوَ أحبّةٌ يُشاركونَكَ الحياةَ، وتوفيقٌ إلهيٌّ يُيسّرُ الدّربَ، وحياةٌ كريمةٌ تُزيّنُها القناعةُ، فانظرْ إلى ما بيديكَ ترَا كنزاً.
الرزق الحقيقي
إنّ الحديثَ عنِ الرزقِ ليسَ مجرّدَ كلامٍ يُقالُ أو فكرةٍ تُطرَحُ، بل هوَ تأمّلٌ عميقٌ في سرِّ الحياةِ وجوهرِ النّعمِ التي تُغدَقُ علينا منَ الرّحمنِ، فتُحيي القلوبَ وتُنيرُ الدّروبَ، والرزقُ، في عُرفِ النّاسِ، قد يُختزَلُ إلى درهمٍ يُمسَكُ أو دينارٍ يُعدُّ، لكنّ الحقيقةَ أوسعُ من ذلكَ بمراحلَ، وأعمقُ من أن تُحصرَ في مادّةٍ تُلمَسُ أو متاعٍ يُحوزُ.
فما الرزقُ الحقيقيُّ إلاّ نسيجٌ بديعٌ من أهلٍ وأحبّةٍ، وعملٍ شريفٍ، وتوفيقٍ إلهيٍّ، وحياةٍ كريمةٍ بسيطةٍ، يُكلّلُها الرّضا بما قسمَ اللهُ، فتُصبحُ الدّنيا جنّةً يُعانِقُ فيها القلبُ السّكينةَ، فلنقفْ على أعتابِ هذا المعنى، نستشرفُهُ بحكمةٍ ونستضيءُ بهِ في رحلةِ التّأمّلِ.
الرزقُ الأوّلُ: الأهلُ والأحبّةُ
إنّ من أعظمِ النّعمِ التي يُنعمُ اللهُ بها على عبدهِ أن يُحيطَهُ بأهلٍ يُحبّونهُ ويُحبّهم، وأحبّةٍ يُشاركونهُ أفراحَهُ وأتراحَهُ، فيُضفي ذلكَ على الحياةِ دفئاً لا يُعادِلُهُ كنزٌ من كنوزِ الدّنيا، أليستِ الأمُّ التي تُراقبُ خطواتِ ولدها بعينٍ لا تنامُ رزقاً عظيماً؟ أوَ ليسَ الأبُ الذي يُتعبُ نفسهُ ليُؤمّنَ لأهلهِ العيشَ الكريمَ هبةً لا تُقدَّرُ بثمنٍ؟ وما قيمةُ المالِ إذا لم يكنْ ثمّةَ صديقٌ يُشاركُكَ لحظاتِ الضّحكِ، أو أخٌ يُمسكُ يدَكَ في دروبِ الحياةِ الوعرةِ؟
إنّ الأهلَ همَ الوطنُ الأوّلُ الذي ننتمي إليهِ، والأحبّةَ همُ الرّوضُ النّضرُ الذي نستظلُّ بأفيائهِ، وكم من غنيٍّ جمعَ الأموالَ فإذا هوَ وحيدٌ، يفتقدُ من يُؤنسهُ ويُواسيهِ! فالرزقُ الحقُّ هوَ ذلكَ الرّباطُ الإنسانيُّ الذي يجمعُ القلوبَ، ويجعلُ منَ الحياةِ لوحةً مكتملةَ الألوانِ.
يا من تشتكي ضيقَ الحالِ، انظرْ إلى من حولَكَ، فإنْ وجدتَ قلباً ينبضُ بحبّكَ، فقد أُوتيتَ كنزاً لا يفنى، وإنْ كانَ لكَ أهلٌ يُشاركونكَ العيشَ، فأنتَ أغنى النّاسِ، وإنْ جهلتَ ذلكَ، فليكنْ شكرُكَ للهِ أنْ جعلَ لكَ في الأرضِ من يُحيطُكَ بالمودّةِ، فهذا هوَ الرزقُ الأوّلُ الذي لا يُضاهيهِ شيءٌ.
الرزقُ الثّاني: العملُ الشّريفُ والتّوفيقُ
ومنْ رزقِ اللهِ على عبدهِ أن يُرزَقَ عملاً شريفاً يُحيي بهِ نفسهُ، ويُعيلُ بهِ أهلهُ، ويُسهمُ بهِ في عمارةِ الأرضِ، فالعملُ ليسَ مجرّدَ وسيلةٍ لجمعِ المالِ، بل هوَ رسالةٌ تُضفي على الحياةِ معنىً، وتُكسِبُ النّفسَ عزّةً وكرامةً، ألا ترى إلى الفلّاحِ الذي يُعاني حرَّ الشّمسِ ليُخرجَ منَ الأرضِ ثمراً يُطعمُ النّاسَ؟
أليسَ رزقُهُ في تعبهِ، وسعادتهُ في إحياءِ الأرضِ؟ وما أجملَ أن يُرزَقَ الإنسانُ توفيقاً منَ اللهِ، فيجدُ في عملهِ سبيلاً للنّفعِ والإبداعِ، ويُحسُّ أنّ يديهِ تُسهمانِ في بناءِ الحياةِ! إنّ التّوفيقَ رزقٌ لا يقلُّ عنِ العملِ ذاتهِ، فكم من إنسانٍ سعى واجتهدَ فلم يُوفقْ، وكم من آخرَ حالَ التّيسيرُ بينَ يديهِ فأنجزَ ما أرادَ!
والتّوفيقُ هبةٌ إلهيّةٌ، تُفتَحُ بها الأبوابُ المغلقةُ، وتُستنارُ بها الدّروبُ المظلمةُ، فإذا كنتَ تُحسنُ صنعةً، أو تجدُ في عملكَ متعةً، أو ترى ثمرةَ جهدكَ تنمو، فاعلمْ أنّكَ مُرزَقٌ رزقاً عظيماً، وإنْ كنتَ تُحبُّ ما تعملُ، وتجدُ فيهِ راحةَ ضميركَ، فقد هُديتَ إلى طريقِ السّعادةِ، فاشكرِ اللهَ على عملٍ تُحيي بهِ نفسَكَ، وعلى توفيقٍ يُنيرُ دربَكَ، فهما من أجلِّ النّعمِ التي تُعطي الحياةَ قيمتَها.
الرزقُ الثّالثُ: الحياةُ الكريمةُ والرّضا
وإذا تأمّلْتَ في الرزقِ، وجدتَ أنّ من أعظمِ صورهِ تلكَ الحياةُ الكريمةُ البسيطةُ، التي لا تُثقلُ النّفسَ بطمعٍ، ولا تُرهقُ القلبَ بحسدٍ، فما أحسنَ أن يعيشَ الإنسانُ في بيتٍ متواضعٍ، يأكلُ من طعامٍ حلالٍ، ويسترُ جسدهُ بثوبٍ نظيفٍ، ثمّ يرفعُ عينيهِ إلى السّماءِ شاكراً راضياً! إنّ الحياةَ الكريمةَ ليستْ في كثرةِ المالِ، بل في قناعةِ النّفسِ بما أُعطيتْ، وفي رضا القلبِ بما قسمَ اللهُ.
والرّضا جوهرةٌ نفيسةٌ، من امتلكَها أصبحَ ملكاً وإنْ كانَ في كوخٍ، ومن افتقدَها عاشَ فقيراً وإنْ سكنَ قصراً، ألم ترَ إلى من يملكُ الدّنيا ولا يجدُ السّكينةَ، لأنّ قلبهُ معلّقٌ بما لم ينلْ؟ وألم ترَ إلى من يعيشُ على الكفافِ، لكنّهُ يبتسمُ لأنّهُ راضٍ بما كتبَ اللهُ؟ إنّ الرّضا يُحوّلُ القليلَ إلى كثيرٍ، والنّقصَ إلى كمالٍ، والحرمانَ إلى وفرةٍ.
فمن رضيَ بحياتهِ، وجدَ في بساطتها جمالاً لا يُشترى، وعاشَ في سلامٍ لا يُوزَنُ بميزانٍ، يا من تبحثُ عنِ الرزقِ، ابحثْ عنِ الرّضا أوّلاً، فإنْ وجدتَهُ فقد وجدتَ الكنزَ الذي لا ينفدُ، وحييتَ حياةً كريمةً تُرضي ربَّكَ وتُسعدُ نفسَكَ.
وإنّ تأمّلاً صادقاً في الرزقِ يُوقفُنا عندَ حقيقةٍ جليّةٍ، وهيَ أنّ الرزقَ الحقيقيَّ لا يكتملُ إلاّ بتوازنٍ بينَ ما يُعطيهِ اللهُ من نعمٍ، وبينَ ما يُقدّمهُ العبدُ من شكرٍ ورضا.
فالأهلُ والأحبّةُ رزقٌ، لكنّهُ يزدادُ جمالاً إذا أحسنتَ صلتهم وأكرمتهم، والعملُ رزقٌ، لكنّهُ يُثمرُ إذا أدّيتهُ بإخلاصٍ وإتقانٍ، والحياةُ الكريمةُ رزقٌ، لكنّها تُشرقُ إذا زيّنتَها بالرّضا والصّبرِ.
وما أجملَ أن ينظرَ الإنسانُ إلى ما بينَ يديهِ، فيراهُ كثيراً وإنْ كانَ قليلاً، ويُدركَ أنّ اللهَ لم يُعطهِ إلاّ خيراً، ولم يمنعْهُ إلاّ لحكمةٍ، فالشّكرُ يُضاعفُ النّعمَ، والرّضا يُحيي القلبَ، والتّوازنُ يجعلُ منَ الحياةِ رحلةً ممتعةً، لا سباقاً محموماً وراءَ سرابٍ، فمن أرادَ الرزقَ الحقيقيَّ، فليبدأْ بشكرِ اللهِ على ما أُعطيَ، وليُحسنْ استقبالَ ما يأتي، وليُدركْ أنّ السّعادةَ ليستْ في كثرةِ المالِ، بل في غنى النّفسِ وسلامةِ القلبِ.
فيا أيّها القارئُ الكريمُ، إنّ الرزقَ الحقيقيَّ ليسَ ذهباً يُكدَّسُ، ولا فضّةً تُجمَعُ، بل هوَ قلبٌ راضٍ، وأهلٌ صالحونَ، وعملٌ نافعٌ، وحياةٌ كريمةٌ يُظلّلُها التّوفيقُ منَ اللهِ، فانظرْ إلى ما حباكَ بهِ الرّحمنُ، ولا تُطِلِ النّظرَ إلى ما في أيدي النّاسِ، فإنّ في يديكَ كنزاً لو علمتَ.
واعلمْ أنّ الرزقَ ليسَ مجرّدَ ما يُؤكَلُ أو يُشرَبُ، بل هوَ ما يُحيي الرّوحَ ويُنيرُ العقلَ ويُسعدُ القلبَ، فاشكرْ ربَّكَ على نعمةِ الأحبّةِ، واعملْ بجدٍّ لتُحييَ نفسَكَ، وارضَ بما قسمَ اللهُ لكَ، فإنّ في الرّضا جنّةَ الدّنيا، وفي الشّكرِ زيادةَ النّعمِ.
وما أحسنَ أن يعيشَ الإنسانُ في هذهِ الدّارِ، قلبهُ مُطمئنٌّ، ونفسهُ راضيةٌ، يستقبلُ أيّامَهُ بابتسامةٍ، ويودّعُ لياليهِ بحمدٍ، فذلكَ هوَ الرزقُ الحقيقيُّ الذي لا ينفدُ، والكنزُ الذي لا يُفارقُ صاحبهُ أبداً.
تمت الكتابة بواسطة: حسيب أورفه لي.
هل كان المحتوى مفيداً؟ أم تريد الإبلاغ عن خطأ، رأيك يهمنا وتعليقك يفيد الموقع