![]() |
لعنة المسؤوليات |
لعنة المسؤوليات لا تطرق الباب، بل تقتحم العمر فجأة، وتستقر في القلب كما تستقر الشيخوخة في جسد لم يجهز بعد للانحناء.
لعنة المسؤوليات - حين تصبح كبيراً رغماً عنك
لا شيء أشدّ مرارة من أن تُولد وفي ظهرك حملٌ لا يشبه عمرك، وأن تُطلّ على الدنيا محاطاً بألف قيد، بينما أبناء جيلك يركضون أحراراً على رمل الحياة الدافئ، ليست المشكلة أن تكبر، فالنضج نعمة، وإنما أن تُجبر على النضج قبل أوانه، وأن تُحمّل ما لا يُحتمل، لأن الظروف قد قرّرت أن تتجاهل صِغَر سنّك، وأن تستعجل منك الحكمة والوقار ومسؤولية الرجال الذين شاخت أعمارهم في الكفاح.
كلّما وقفت أمام المرآة، لم أرَ وجهي كما هو، بل رأيت ظلّاً لشخصٍ أكبر مني بعشرين عاماً، وجهٌ يعرف التعب من كثرة ما عاشه، وعينان تعبتا من السهر، ليس سهر السُهْرَة ولا سهر الحُبّ، بل سهر الواجبات والالتزامات والقلق، كلّ شيء في حياتي أصبح محسوباً، لا وقت للعبث، لا وقت للهو، لا وقت حتى لأتنفّس بهدوء.
أن تنهض كلّ صباح لتُلبّي نداءات لم تُخترها، وأن تمشي في طريقٍ لم ترسمه، فقط لأن لا أحد غيرك كان متاحاً لتحمّل ذلك، تلك لعنة لا تُفسَّر بالكلام.
صورة القويّ... من الداخل
الناس يرونك قويّاً، ويرددون أن المسؤوليات تصنع الرجال، لكنهم لا يرون ليلك، ولا يسمعون تنهّدك حين تطفئ الأنوار، لا أحد يعلم كم من الأحلام قد أجلتها، وكم من الأشياء الصغيرة التي تمنّيتها ثم وضعتها جانباً بحجّة الوقت والضرورة.
لطالما كنت الصديق الذي يُعتمد عليه، والابن الذي يُعوَّل عليه، والشخص الذي لا ينهار مهما اشتدّ الضغط، لكن الحقيقة أنّني منهك، مُتعب من كثرة ما أُطالب أن أكون حاضراً، عاقلاً، كبيراً، ناضجاً، متماسكاً، وأنا لم أزل أبحث عن نفسي بين ما أريده وما يُفرض عليّ.
إنّ من أكبر الظلم أن تُختزل سنوات الشباب في عُلبٍ من المسؤوليات، أن يُخنق قلبك بنداءات "كن رجلاً"، و"تحمّل"، و"اصبر"، دون أن يسألك أحد إن كنت بخير، أو إن كنت قادراً أصلاً على الاستمرار، أحياناً أشعر أنّي أشيخ من الداخل، وأن أجمل أيامي قد عبرت دون أن أعيشها كما ينبغي، وأن الشباب هُدِرَ في الركض خلف الواجبات.
هل عليّ أن أكون ممتنّاً؟ ربما، فالمسؤوليات تصقل، وتعلّم، وتُشكّل الإنسان، ولكن أي فائدة من ذلك إن كنت لا أشعر بنفسي؟ إن كان كلّ يوم يمرّ عليّ كأنه خمس سنوات من الشدّ والركض والقلق؟
أنا لا أشتكي، ولا أبحث عن شفقة، ولكنني أكتب لأنني أريد أن أسمع صوتي وسط هذا الضجيج، أن أقول إنني متعب، وإنّ هذا الثقل لا يناسب عمري، ولا يناسب روحي، التي كانت تحلم بأن تحيا ببساطة، أن تحبّ، وتضحك، وتسهو، وتخطئ، وتعود.
حقّي في حياةٍ مثل الآخرين
أنا لا أطلب حياةً بلا مسؤولية، ولكنني فقط أطلب حقّي في أن أعيش الحياة مثل الآخرين، أن أجد وقتاً للسكينة، أن أختبر الحريّة، أن أضحك من قلبي دون أن يُربكني صوتٌ داخلي يقول إنّ شيئاً ما ينتظرني كي أُنجزه، نعم، المسؤوليات تصنع رجالاً، لكنها تصنع أيضاً قلوباً منهكة، وأرواحاً مثقوبة، وأعماراً تمضي بلا مذاق.
أيّها القارئ، إنّ كنت قد جرّبت هذا النوع من الحياة، فأنت تدرك أنّ الكلمات ليست مبالغة، بل هي مجرّد مرآة لِما نعيشه كلّ يوم، وإن لم تكن قد مررت بذلك، فتذكّر أنّ بعض الذين تراهم صامتين لا يعيشون السكون، بل يعيشون صراعاً داخليّاً كلّ لحظة، المسؤوليات لا تُعرّف دائماً بالواجبات المادية، بل قد تكون مشاعر متشابكة، وتوقّعات لا ترحم، وأحمالاً لا تُرى بالعين.
وأنا، وإن كنت قد اعتدت المسير بهذا الحمل، فإنّي ما زلت أتمنّى يوماً واحداً فقط... أعيش فيه بقلبي، لا بعقلي بنفسي، لا بمن يُعوّل عليّ، بعمري الحقيقي، لا بالعمر الذي فرضته الحياة عليّ.
وإن كنت مثلي، فلا تخَف من أن تقول "لا" حين يكون قلبك متعباً، لا تتردد في اقتطاع مساحة صغيرة لنفسك، تمارس فيها ما تحبّ، تضحك، أو حتى تبكي دون رقابة، ليس أنانية أن ترمم روحك كي لا تنهار، بل حكمة يعرفها من جرّب أن يحمل الحياة وحده، ابدأ بالقليل، لكن لا تنسَ نفسك في الزحام، فحتى الأقوياء يحتاجون إلى حضنٍ داخليٍّ، يسندهم قبل أن يسندوا الآخرين.
تمت الكتابة بواسطة: حسيب أورفه لي.
هل كان المحتوى مفيداً؟ رأيك يهمنا وتعليقك يفيد الموقع