الخيبة درس قاسي - لا أحد يخرجُ منها كما دخل

الخيبة درس قاسي
خاطرة الخيبة درس قاسي

الخيبةُ درسٌ قاسي يُدمي القلبَ ويُكسرُ أحلامَهُ، لكنه يصقلُ الروحَ، فتُولدُ من وجعِهِ حكمةٌ تُرشدُ خطى النفسِ نحوَ غدٍ أكثرَ اتزاناً ووعياً بالواقعِ.

الخيبة درس قاسي

في مدارجِ الحياةِ، حيثُ تتفتَّحُ الآمالُ كأزهارٍ نضِرةٍ في ربيعِ الروحِ، تهبُّ رياحُ الواقعِ فجأةً، فتنثرُ تلك الأزهارَ وتقلبُ جذورَها، فتسقطُ أرضاً مكسورةَ الأجنحةِ، وهناكَ في لحظةِ الصدمةِ، تبرزُ الخيبةُ كلوحٍ هشٍّ لا يحتملُ ضرباتِ القدرِ، إنها ليستْ مجردَ وخزةٍ عابرةٍ في القلبِ، بل هي مرآةٌ تعكسُ حدودَ الإمكانِ، وتُجبرُ النفسَ على مواجهةِ الحقيقةِ بلا مواربةٍ.

فما الخيبةُ إلا درسٌ قاسٍ، يُعلِّمُ الإنسانَ أن يمشيَ على أرضِ الواقعِ بخطىً متزنةٍ، وأن يرفعَ رايةَ الطموحِ دونَ أن يُغريهِ ارتفاعُ الخيالِ، فلنقلبْ صفحاتِ هذا الدرسِ، ولننظرْ في طياتِهِ، عسى أن نجدَ فيهِ حكمةً تنيرُ دروبَنا.

طبيعة الخيبة ومكنوناتها

الخيبةُ يا سادةَ القلوبِ ليستْ مجردَ لحظةِ ألمٍ تمرُّ كسحابةِ صيفٍ، بل هي تجربةُ وعيٍ عميقٍ، تُعرِّي النفسَ أمامَ قسوةِ الواقعِ، إنها تلكَ اللحظةُ التي يرفعُ فيها القلبُ رايةَ أحلامِهِ عالياً، ظاناً أن الريحَ ستحملُها إلى عنانِ السماءِ، ثم يجدُها، في غمضةِ عينٍ، تتهاوى تحتَ وطأةِ امتحانِ القدرِ.

كم من آمالٍ بُنيتْ على رمالِ الخيالِ، فما إن هبَّتْ نسمةُ الحقيقةِ حتى انهارتْ تلكَ الأبنيةُ! الخيبةُ، إذنْ، هي صوتُ الواقعِ يُنادي الإنسانَ ليعودَ إلى حدودهِ، ليُدركَ أن الحياةَ ليستْ دائماً موئلاً للأمانيِّ، بل هي ميدانٌ تتصارعُ فيهِ الأحلامُ مع الصخورِ.

وما أعجبَ أمرَ هذهِ الخيبةِ! فهي، وإنْ كانتْ تُدمي القلبَ، تُوقظُ العقلَ، إنها كالنارِ التي تُحرقُ الزيفَ، فتتركُ الجوهرَ نقياً يلمعُ تحتَ أشعةِ الحقيقةِ، ومنْ عجيبِ أمرِها أنها لا تأتي دائماً في هيئةِ كارثةٍ، بل قد تتسلَّلُ في لحظاتٍ هادئةٍ، كأنْ تُخفقَ خطةٌ دُبِّرتْ بعنايةٍ، أو تتلاشى أمنيةٌ كانتْ تُضيءُ دربَ الحياةِ، فالخيبةُ، في جوهرِها، هي دعوةٌ للتأملِ، لإعادةِ النظرِ في المساراتِ، ولترتيبِ الأولوياتِ على ضوءِ تجربةٍ جديدةٍ.

أثرُ الخيبةِ في النفسِ والمجتمعِ

إذا ما نزلَتِ الخيبةُ بالنفسِ، فإنها تُثيرُ فيها عاصفةً من المشاعرِ، قد تُذرِّي الحيرةُ أفكارَ الإنسانِ، فتتساءلُ النفسُ: أينَ أخطأتُ؟ ولمَ لمْ تُحققْ أحلامي مرساها؟ وقد يتسلَّلُ الشكُّ إلى الروحِ، فيُوهمُها أن الطموحَ كانَ وهماً، وأن العزيمةَ كانتْ سراباً.

وإنْ طالَ أمدُ الخيبةِ، فقد تهبطُ النفسُ إلى كهوفِ اليأسِ، حيثُ يُصبحُ الأملُ ظلاً بعيدَ المنالِ، لكنْ، في خضمِّ هذهِ العاصفةِ، تُولدُ بذورُ الصبرِ، وتتشكَّلُ ملامحُ حكمةٍ جديدةٍ، إذْ يُدركُ الإنسانُ أن الخيبةَ ليستْ نهايةَ الطريقِ، بل منعطفاً يُفضي إلى دروبٍ أخرى.

وفي فلكِ المجتمعِ، تُثيرُ الخيبةُ موجاتٍ متباينةً، فقد ينظرُ الناسُ إلى الخائبِ بعينِ النقدِ، فيُلقونَ عليهِ لوماً أو عتباً، ظانِّينَ أن خيبتَهُ دليلُ قصورٍ فيهِ، وقد يمدُّ آخرونَ أيديَ التراحمِ، فيُحيطونَ الخائبَ بدفءِ المواساةِ.

 لكنْ سواءٌ أكانَ النقدُ أم التراحمُ، فإن الخيبةَ تُزيلُ عن الجسدِ الاجتماعيِّ رداءَ المظاهرِ الزائفةِ، إنها تُظهرُ المكنوناتِ كما هي، فتُعرِّي القلوبَ من أقنعةِ الادِّعاءِ، وتُجبرُ الناسَ على مواجهةِ الحقائقِ بصدقٍ، وهكذا، تصبحُ الخيبةُ مرآةً للمجتمعِ، تعكسُ ما فيهِ من قوةٍ وضعفٍ، من تماسكٍ وتشتُّتٍ.

مقاربات التعامل مع الخيبة

فكيفَ يُواجهُ الإنسانُ هذا الدرسَ القاسيَ؟ إن أولَ خطوةٍ هي الاعترافُ بالواقعِ، مهما كانَ مرّاً، حينَ يُدركُ الإنسانُ أن خيالَهُ كانَ أوسعَ من أرضِ الإمكانِ، يبدأُ في بناءِ رسوخاتِ الصبرِ في نفسهِ، إن الاعترافَ بالخيبةِ ليسَ ضعفاً، بل هو قوةٌ تُمكِّنُ النفسَ من إعادةِ ترتيبِ أشرعتِها لتُبحرَ في بحرِ الحياةِ من جديدٍ.

ثم يأتي دورُ التخفيفِ من وطأةِ الأملِ المبالَغِ فيهِ، فالأملُ، وإنْ كانَ وقودَ الروحِ، قد يُحرقُها إنْ زادَ عن حدِّهِ، فليكنْ أملُنا متزناً، متأنياً، يقفُ على أرضٍ صلبةٍ من الواقعِ، لا يُحلِّقُ في سماءِ الأوهامِ.

ومنْ أعظمِ ما تُعلِّمُهُ الخيبةُ هو فنُّ استخلاصِ العبرِ، حينَ يحفرُ الإنسانُ في عِظَمِ خيبتِهِ، يجدُ دروساً لا تُمحى، يتعلَّمُ تقديرَ اللحظةِ، ويُدركُ أن الحياةَ لا تُعطي دائماً ما نريدُ، بل تُعطي ما نحتاجُ، يتعلَّمُ التأنِّيَ قبلَ الإقدامِ، والتفكيرَ قبلَ القفزِ إلى المجهولِ، وهكذا، تُولدُ من رحمِ الخيبةِ حكمةٌ تُضيءُ الدربَ، وتُعينُ الإنسانَ على مواجهةِ التحدياتِ بقلبٍ أقوى وعقلٍ أنضجَ.

إن الخيبةَ، وإنْ كانتْ قاسيةً على الروحِ، فإنها تُخرجُ منها ذواتاً مجدَّدةً، أكثرَ اتزاناً وقوةً، إنها كالمطرِ الذي يُغسلُ الأرضَ من أدرانِها، فيُنبتُ فيها زرعاً جديداً، فلندعْ درسَ الخيبةِ يعجنُ في قلوبِنا صلابةَ العزيمةِ، ويصقلُ في أرواحِنا نضارةَ الحكمةِ، ولنُدركْ أن الأحلامَ، وإنْ تكسَّرتْ على صخورِ الواقعِ، فإنها تُمهِّدُ الطريقَ لأمانيٍّ أقوى، ترتكزُ على أسسٍ من الصبرِ والوعيِ.

فاستبشروا، يا أصحابَ القلوبِ، فإن الخيبةَ، وإنْ أدمتْ، فإنها تُعلِّمُ، وإنْ أبكتْ، فإنها تُنيرُ، ومنْ عظيمِ حكمةِ الحياةِ أن الغدَ يحملُ دائماً بذورَ أملٍ جديدٍ، تنتظرُ منا أن نزرعَها بحكمةٍ وصبرٍ.

تمت الكتابة بواسطة: حسيب أورفه لي.

موقع محترفين العرب
موقع محترفين العرب
موقع محترفين العرب البوابة الشاملة للمحتوى العربي بكل جوانبه ومجالاته.
تعليقات