خاطرة رسائل مستقبلية لنفسي

خاطرة رسائل مستقبلية
خاطرة رسائل مستقبلية

قبل أن ابدأ بالنقر على الأزرار لأكتب حروفي التي تزاحمت في قلب الذاكرة، أريد أن أقبّل قدميك ورأسك الزاكي، خاطرة رسائل مستقبلية لنفسي ولعائلتي.

خاطرة رسائل مستقبلية تنتظر لقاءً طال عليه الأمد

يُمناكِ تلك التي لم ترحل عني رائحتها، بقي أثرها مُعلقٌ على صدري لا ثيابي، اعذريني إن كانت مُفرداتي مرتبة في مقامها الأول لكِ يا ريحانة القلب، لكن اغترابي عنكِ جعل كل شيء يستعصي على قلبي فلا يدنو منه حزناً إلا في ذِكراكِ.

كُنت ولا زلت تلك اليد الحنونة التي وُضعت ذات يوم على جبيني لتلمس حرارتي، وليتك تعلمي كم أشتاق لتلك اليد حتى توضع مجدداً على جبهتي بعد إذ قبّلتها، ألمسي حرارتي يا أمي، فأنا احترق في غيابك!.

تلك رسائلي لنفسي، عندما أصل إلى ما حلمت به، حتى أعود لتلك البلاد التي أبعدتنا عنها قسراً، وحرمتنا أحضاناً كانت بحنانها قادرة على إشباع تعطّش المفتقرين للعاطفة، أنتِ كذلك يا أمي!.

أُريد أن أخبرك أن رسائلي هذه قد تصلك متأخرة، بعد أن يكون العمر قد أخذ من ملامح وجهي الكثير ورسم عليها خطوطاً وهذا ما أخشاه يا محبوبة قلبي، قد نقرأ تلك الرسائل بعد أن ينهش الفراق من قلبينا ويستبدل ما بهما ليملؤه قهراً على تلك الأيام التي لم أتمكن فيها من أن أتناول طعامك الشهي، بيديكِ تلك ورائحة الحنان منك تطغى على كل شيء.

أنا الآن أبلغ من العمر ستة وعشرون عاماً لكنني لا زلت في الثامنة عشر من عمري، منذ أن تركتك والزمن بالنسبة لي لا يمر، وذكريات عمري لا تنفكّ تتوقف عن الظهور علانيةً على معالم وجهي عندما أشعر باليأس من كل شيء!.

تلك الذكرى عندما ركضتِ بقدميك لتأخذيني ممن يحاول سحبي منك عنوة، وأنت تقولين بأنني وحيدك ولا تملكين سواي، رغم أن أخي "أحمد" موجود، لكن خوفك جعلك تدّعين أيُّ قول لأول مرة يا حبيبتي وكل هذا سببه رغبتك في حمايتي من بطش أولئك القساة!.

لا يمكنني نسيان صوت قدميكِ عندما تدخلين غرفتي وأنا أجلس خلف شاشة الكمبيوتر الخاص بي، حتى تُطعميني بيديكِ لأنني رفضت النهوض عن الشاشة وإيقاف العمل!، أو تلك المرة عندما كنتِ لا تبخسين بدعائك لنا في كل مرة نذهب فيها للعمل وكأننا سنذهب إلى الموت ودعاؤك لله هو ما كان يُنجيّنا!.

كُنا نعود بكل الثقل الذي نحمله والوهن الذي يأكل من كتفينا ومفاصلنا الصغيرة، وتركضين لتضعي طعاماً زكياً في بطوننا الجائعة ثم تتمتمين بعبارات الأمهات والأدعية التي تزخرين بها دائماً ولا يتوقف لسانك عن نطقها.

أمي لقد نهش الاغتراب من أجسادنا حتى أصبحنا عُراةٌ من الروح

أمي… ليتك تعلمين كَم تعبنا، وفي مشاعرنا رضوض تكاد تصل حد الكَسر، فأنا المكسور في مُحياي ولغتي وأعمالي، وكل شيء من حولي يُنادي أمي بقلبٍ مفجوع، لأقبّل قدميك وانحني لجبروتك على كل ما تحمّلته لأجلنا، وجميع تلك التضحيات التي قدمتها، عندما كُنتِ تبكين أيامك ولياليكِ، تبكين خساراتك واحدة تلو الأخرى.

أتذكرين تلك "البراميل" التي كانت تقع فوق رؤوسنا؟ عندما كُنت لا تخلعين حجابكِ عنك مخافة الموت في أي لحظة؟ أتذكرين تلك الليلة عندما وقع كل شيء فوق رؤوسنا وصوتك وحده يُنادينا جميعاً؟ لو تعلمي يا أمي كم أن تلك الليالي أخذت من ذاكرتي مساحةً لا بأس بها حتى أنها لا تنفك تظهر في كوابيسي تُحارُ عن أي شيء آخر ستدمره بداخلي!.

أنا الآن أراقب حلمي أمامي وأشعر أنه وهنٌ على وهن، ولكني والله أضع كل جهدي به حتى لا يذهب سدىً، ولو تُدركين يا فيروزة الروح كَم استهلك مني هذا الحلم من ليالي كاد الأرق أن يأكل بها أسفل عيني، كُنت أضع وجهي نحو قبلة الله ثم عملي، كل هذا لأنني أردت أن أرسم لكم ولي مستقبلاً أكثر راحة، يمحو كل حزنٍ لامس قلوبنا، كل هذا فعلته يا أمي حتى أُلاقيكِ سريعاً وأراكِ تُلبسيني بزة الزفاف وتزفّيني على زوجتي المستقبلية!.

جميعها يا أمي تحرق صدري، لذا فإن حروفي الآن تُكتب إليكِ، فأنتِ الماضي والحاضر والمستقبل، ورائحة طعامك لا تخرج من أنفي أبداً، حتى أنك بكل تفاصيلك لا تخرجين من حياتي، أنتِ في زوايا غرفتي تلك التي لم تطأها قدمك، في أفكاري كل ليلة، في ذكرياتي عندما كُنا نَمضي ليالينا تحت ضوء الشموع نرسم لنداعب الوقت الفارغ بما يُسلّي أرواحنا!.

ذكرياتنا تلك حيث كان هنالك ركنٌ خاص للصلاة في منزلنا، منزلنا هذا يا أمي الذي لم يبقى منه شيء، بقي فيه فقط ذكرياتنا المخبئة داخل جدرانه المحطمة، مشاغباتنا وصوتي أنا وإخوتي ونحن نلعب ونضرب بعضنا البعض.

أتعلمين يا أمي أن أكثر ما يُخيفني هو أن أراكِ وألمس وجهك وأرى خيوط العمر قد مرّت بجانب عينيك؟ أو أن الدمع على اغترابنا قد قطف من روحك الخزامى وأطفئها؟ كَم أخشى يا أمي أن تكون ملامحك قد تبدلّت ولم أشهد تلك التغيرات بشكلٍ يومي، بل إن كل ما أعرفه عنك هو ملامحك تلك خلف الشاشة، وقلبي ينفطر في كل مرة أفكر فيها أن العمر يأخذ من ملامحك تلك دون أن أشهد تبدلها وأنا ألتمس شذاها وعبقها الدافئ.

ماما… سأقولها بهذه اللغة، فهي أكثر دفء، عندما قُلتي لي، أنكِ ما إن تريننا أمامك وتضمينا إلى صدرك، فإنك لن تنامي أبداً حتى ينام جسدك وحده، شعرت حينها كم أن حنينك وشوقك لنا يفوق اشتياقنا، فأنتِ التي قاسيت وعانيت وتجرعت من المرارة الكثير حتى أصبحتِ هنا، كما أنك ضحيتِ برؤيتنا ونحن نكبر أمامك من أجل حمايتنا من كل ضرر.

أنا في أشد معاناتي يا أمي، بعد أن رسمنا مخططاً كبيراً لزيارتنا لكِ، بعد أن تخيلنا جميع تلك الأحداث، جولاتنا في أزقة حلب، تنقلاتنا بين مطاعمها معكم، نومنا في حضنك ليلاً، وصحوتنا على أصواتكم نهاراً، كيف ستكون ضحكاتنا؟ كيف أصبح شكل إخوتي؟ كيف أصبحنا وأصبح العمر معنا؟ ماذا حدث في غياب كلٍّ منا عن بعضه البعض؟ جميعها تحولت إلى سراب، وبقي منها فقط صوت الوقت وهو يعاود كرّته في المضي دون تحقيق الأمر.

إن أكثر ما كنت انتظره ما أن دفنت وجهي في حضنك، هو أن أخبرك عن كل ما كان يثقل صدري، من أيامي تلك التي حلمت بها، وأهدافي تلك التي لم أبلغها بعد، وامتحانات الدنيا الصعبة تلك، أريد أن أخبرك يا أمي أنني لا أقنط من رحمة الله كما علّمتني، وأنني أقول دائماً "الحمدلله" لكل شيء، وأن الله يثبت لي في كل مرة أن امتحاناته تلك على قدر إيماني تأتي! نعم إنها حقيقةً يا أمي، لإن الامتحان يستحقه الأتقياء فقط أليس كذلك؟.

هل سيأتي هذا اليوم يا ريحانة قلبي؟ ومتى يكون ميعاده؟ لقد بلغ الشوق حدّه وبتُّ أركض لاهثاً كالطفل الصغير بحثاً عن أمي، رائحة أمي، طبيخ أمي، حنان أمي وصوتها الدافئ، أبحث عن أرضي، ترابها، أُناسها، أريد الهروب من كل شيء يا أمي، أريد أن أقرأ رسالتي تلك لأتذكر أيام اغترابي وأستعيذ بالله من هذه الأيام لكيلا تعود، أريد أن تخرج عني الغربة خروج الجنين من رحم أمه!.

لنا لقاء يا عيوني، لنا لقاءٌ قريب بإذن الله أو كما تقولين أنتِ "بجاه الحبيب المصطفى" لنا لقاء وليس ببعيد، أنا على يقين بأنني سأصل حضنك ولن أخرج منه مهما حييت، وهذا النوم الهانئ ليس ببعيد، أليس كذلك يا أمي؟.

تمت الكتابة بواسطة: فريال محمود لولك.

موقع محترفين العرب
موقع محترفين العرب
موقع محترفين العرب البوابة الشاملة للمحتوى العربي بكل جوانبه ومجالاته.
تعليقات